اللغات
متاح بالـ
اجتاحت القوات الروسية دولة أوكرانيا في 24/شباط المنصرم 2022 معتدية على دولة مستقلة ذات سيادة، وحكومة منتخبة ديمقراطياً، يُعيد هذا الاجتياح السوريين بالذاكرة إلى 30/ أيلول/ 2015، عندما قصفت القوات الحربية الروسية الأراضي السورية، مصطفةً إلى جانب حليفها النظام السوري، وأعتقد أن كلا التدخلين غير قانوني، بكل تأكيد مع وجود فوارق، ففي سوريا هناك نزاع مسلح داخلي مع نظام لا يقبل إلا بحكم فردي عائلي، وارتكب في سبيل البقاء في الحكم انتهاكات فظيعة تُشكِّل جرائم ضدَّ الإنسانية، أما في الحالة الأوكرانية فنحن أمام نزاع مسلح دولي، إضافة إلى الفروق الأخرى العديدة من الناحية الجيوسياسية، الاقتصادية والاجتماعية.
من زاوية نظر حقوقية، فإنَّ حماية المدنيين والضحايا يجب أن تكون المعيار، بصرف النظر عن دينهم، عرقهم، مكان وجودهم، يجب على الدول، ومجلس الأمن بذل كل الإجراءات الممكنة لحماية المدنيين من الجرائم ضدَّ الإنسانية، وجرائم الحرب، وجرائم الإبادة الجماعية. كما نصَّت على ذلك اتفاقيات جنيف، بأن على الدول أن تكفل احترام اتفاقيات جنيف، وكما تنصُّ على ذلك العديد من معاهدات القانون الدولي لحقوق الإنسان، من هذا الجانب يحق لنا كسوريين أن نقارن بين ردة فعل الغرب تجاه القصف المتوحش الروسي على أوكرانيا، وردة فعل الغرب تجاه قصف روسي متوحش، بل أكثر توحشاً وعنفاً في سوريا.
فعلى مدى سنوات ارتكبت روسيا الآلاف من انتهاكات حقوق الإنسان من عمليات قتل نتيجة للقصف العشوائي، واستهداف المراكز الحيوية بما فيها المراكز الطبية ومراكز الدفاع المدني، وتدمير أحياء بكاملها، وتشريد مئات آلاف السوريين، وقد وثقت الانتهاكات الروسية في سوريا من قبل العديد من الجهات الأممية، والحقوقية الدولية مثل هيومان رايتس ووتش، والعفو الدولية، وكذلك من قبل الشبكة السورية لحقوق الإنسان، والتي يتميز توثيقها بأنها تمتلك بيانات الضحايا الذين قتلوا، وتسجل بشكل تراكمي حصيلة المراكز التي قصفت، وقالت في تقريرها السنوي الأخير الذي صدر في 30/ أيلول المنصرم 2021 في الذكرى السادسة للتدخل الروسي في سوريا، إن القوات الروسية منذ تدخلها العسكري في سوريا في 30/ أيلول/ 2015 حتى 30/ أيلول/ 2021 قد قتلت 6910 مدنيين بينهم 2030 طفلاً و974 سيدة (أنثى بالغة)، وارتكبت ما لا يقل عن 357 مجزرة، كما وثق التقرير قتل القوات الروسية 70 من الكوادر الطبية، بينهم 12 سيدة، إضافة إلى مقتل 44 من كوادر الدفاع المدني. وسجل مقتل 24 من الكوادر الإعلامية جميعهم قتلوا في محافظتي حلب وإدلب، وسجل ما لا يقل عن 1231 حادثة اعتداء على مراكز حيوية مدنيَّة، بينها 222 مدرسة، و207 منشآت طبية، و60 سوقاً، وما لا يقل عن 237 هجوماً بذخائر عنقودية، إضافة إلى ما لا يقل عن 125 هجوماً بأسلحة حارقة، وساهمت هجماتها في تشريد قسري لمئات آلاف السوريين.
لا أتمنى بوصفي سورياً أن يُعاني أي شخص في العالم من الهجمات البربرية الروسية أو الأسدية، فقد اختبرَت مختلف أنواع الأسلحة بلحمنا ودمائنا، ونأمل أن يتمكن الغرب من ردع روسيا في أوكرانيا، وإلا فهي سوف تعتبر ذلك ضوءاً أخضرَ، وتستمر في تصعيد مستوى توحشها إلى أن يصل إلى ممارساتها ذاتها في سوريا؛ لذا فأنا أعتقد أنَّ كل ما قام به الغرب في سبيل ردع روسيا في أوكرانيا هي خطوات ممتازة وفي الاتجاه الصحيح، ومقدَّرة أشد التقدير، وهي بشكل عام تدخل في صميم القانون الدولي من أجل حماية المدنيين وردع الاعتداء عليهم.
من ناحية أخرى، لا أملك بوصفي سورياً إلا أن أتساءل، لماذا لم يقم الغرب نفسه بأية خطوات جدية لمعاقبة روسيا على قتلها وقصفها بلدي سوريا؟ لماذا لم تفرض أية عقوبات على روسيا لتدخلها العسكري المتوحش في سوريا؟ وأعلم أن هناك إجابات المدرسة الواقعية، لكنني ربما كحقوقي أتحدث من منظور المدرسة الليبرالية، ومن مقاربتنا كضحايا، وليس كسياسيين، وأتأسف أشدَّ الأسف أن سوريا تركت ساحةً مستباحةً لروسيا، ولم تدفع الأخيرة أي ثمن ملموس، ولهذا تعتبر الغالبية العظمى من مراكز الأبحاث الروسية التدخل العسكري في سوريا على أنه نصر مبين، ونجاح باهر للسياسة الخارجية الروسية، وأعتقد أن تراخي الغرب عن معاقبة ومحاسبة روسيا بسبب جرائمها المتوحشة في سوريا شجعها على الاعتداء على أوكرانيا.
ولم يقتصر دعم الغرب على الجانب الاقتصادي، بما في ذلك نظام سويفت، وتجميد أصول البنك المركزي الروسي في الخارج، بل إن الدعم الغربي شمل تحريك ملف في الجمعية العامة للأمم المتحدة، ومطالبة بردع روسيا باعتبارها طرفاً في النزاع عن التوقف عن استخدام الفيتو، وقد تحدَّثت عن هذه النقطة عشرات المرات في جميع المرات التي استخدمت فيها روسيا الفيتو في سوريا، والتي بلغت 16 مرة، لكن لم يكن هناك أية متابعة أو اهتمام. كما كان هناك مطالبة بتطبيق مبدأ اتحاد من أجل السلام في أوكرانيا، وهو المبدأ الذي طالب السوريون بتطبيقه مئات المرات في سوريا. ولا يتَّسع هذا المقال لعرض مقارنة في جميع أو معظم القضايا، وما تم إيراده من نماذج أعتقد أنه كافٍ لإعطاء صورة جيدة عن مدى ازدواجية المعايير، مع إعادة التأكيد على أننا ندعم هذه الخطوات في أوكرانيا فهي حق للشعب الأوكراني.
يأمل السوريون أن يعود الغرب لدعم قضيتهم، وأن تفرض عقوبات على روسيا لتدخلها العسكري في سوريا، وأن يتم تطبيق مبدأ اتحاد من أجل السلام، وتتم ملاحقتها على الانتهاكات الفظيعة التي ارتكبتها في سوريا، والتي تشكل جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، عبر مبدأ الولاية القضائية العالمية، وفي المحاكم الجنائية الأوروبية المحلية، وردع روسيا عن استخدام الفيتو مجدداً في سوريا، وبشكل خاص ضدَّ إدخال المساعدات الإنسانية. إنَّ نجاح الغرب في كبح جماح روسيا في سوريا يعني خطوة كبيرة على طريق حلِّ النزاع السوري، لأن ذلك يقوِّض بشكل كبير حليف النظام السوري الأساسي مما يجبره على الرضوخ للمفاوضات والالتزام بها، كما أن هذه الخطوات الجدية تجاه روسيا تشكل نوعاً من المحاسبة لمرتكبي الانتهاكات الروس، وخطوة جيدة في مسار المحاسبة.